الأربعاء، 7 أبريل 2010

السلط والكرك من أوراق كراسة العمر

السلط والكرك مدينتان أردنيتان عريقتان حبيبتان إلى قلبي قريبتان من روحي. حفرت اسميهما وشما بدويا على زندي. أباهي بهما الدنيا عندما أذكرهما في حلي وترحالي، «أتحزم» بهما سيفا أردنيا غمده لا ينكسر ولا يرتد أبدا. الله ما أحلاهما، نشميتان أردنيتان غاليتان «علي» في اقترابي منهما وفي ابتعادي عنهما.
ما كان حنيني يوما لمدينة وإنما لمدينة ووطن، واليوم مع الغروب والسفر أصبح حنيني لمدينتين ووطن. السلط فيها جذوري ومنها خرجت إلى الحياة كما تنمو بادرة قمح في سهول البلقاء ومؤاب ومؤتة. في حواريها كان ملعب طفولتي، وفي مدرستها الثانوية وعلى حجارتها كتبت قصائد الشباب، ونثرت أحلامي عطرا فوق ماء «عين الجادور»، وعلى ضوء قناديلها الزيتية سهرت مع أقراني من أطفال حارتنا، كنا نراقب الساهرين في أيام الصيف تحت معرشات العنب «والسارين» إلى حقولهم في كل يوم جديد.
الكرك امتداد لروحي ولرحلتي في الزمن القادم، وفيها وجدت شيئا كان ضائعا من ذاتي، وتعانقت روحي الهاربة بأرواح فرسانها، والتحمت مع عناصر الطبيعة فيها ومع ناسها. وتفاعلت كيمياء جسدي بالأشجار والحجارة والطيور، تجولت في حارات الكرك العتيقة، عانقت أشواقي القديمة، وألقيت السلام والتحية على من أعرفهم ومن غادروا من فرسانها. ألقيت التحية على صلاح الدين وكأنني به قد أسرج حصانه وتمنطق بدرعه حاملا ترسه ورمحه وخلفه جيش جرار، وللخيول صهيل، وللسيوف صليل. وعند بوابة الفتح الأول يلتقي جيش خالد وجيش صلاح الدين، وتنطلق من هناك الفرسان والخيول.
وعندما يسألني الناس أن أتحدث عن ذاكرة الزمان والمكان.. أقف على بوابات السلط والكرك، يشدني إليهما الشوق وأبدأ أردد قصائد شعرائهما، ويتواصل وجدي القديم بالجديد.
سألني صحفي «كركي جنوبي» لماذا تغيرت مفردات كتاباتك منذ جئت إلى الجنوب؟ تردد أحيانا الجنوب، وأحيانا الجنوبي… قلت للصديق هذا سؤال الجواب عنه بوح جميل يحتاج إلى كلام كثير.. لقد لاحظت هذا شخصيا وحاولت أن أجد الجواب في داخل هاتين المدينتين الكرك والسلط.
هناك تشابه كبير بين السلط والكرك، الإنسان والجغرافيا والتاريخ. حاولت أن أبحث عن جواب، وأخذت أتذكر وأقرأ من أوراق كراسة العمر.
الكرك ترتكز على قمة جبل عال وعلى «المشراف» قلعة الكرك التاريخية، والسلط «مركوزة» فوق جبال عاليات وعلى حافة جبل منها قلعة السلط، وكل منهما لها ذاكرة وأساطير تروى عن مغامرات فرسانها وشجاعة فتيانها. الكرك «هواها» غربي خليلي، وأبناؤها ينتمون في جذورهم إلى الصحراء وإلى فلسطين. والسلط «هواها» غربي نابلسي، وابناؤها لهم سمات رجال الصحراء وملامح أبناء جبل النار. ولأنني لست مؤرخا، فقد تجاوزت التفاصيل، ولكنني أعرف بأن هناك حنينا يعبر الوادي عبر النهر.
في السلط معمار يحمل تكوينات أبنية نابلس، أعمدة من الحجر الأصفر، ونوافذ و«بلكونات». وفي الكرك معمار وواجهات حضارية تحمل خصائص الفن المعماري للقادمين إليها منذ زمان بعيد. شرفاتها مطرزة بقوارير الورد.
السلط والبلقاء سهول وجبال تغمرها حقول القمح والكروم والزيتون، والكرك والجنوب سهول وجبال وهضاب على امتداد المدى كروم وزيتون وقمح. في السلط والبلقاء عادات وتقاليد وإرث حضاري ينتقل من جيل إلى جيل. وفي الكرك عادات وتقاليد وموروث حضاري يتجدد مع الأجيال يربط الماضي بالحاضر.
وفي السلط قبائل عربية تدين بالإسلام والمسيحية، وتتحالف القبائل دون اعتبار لطائفتها، فهناك ولاء عشائري متنوع محمود الغايات، نبيل الأهداف. وفي الكرك قبائل عربية تدين بالإسلام والمسيحية، وتتحالف متناسية اعتباراتها الطائفية، معتزة بجذورها العربية. وفي السلط «الجميد» السلطي، وفي البلقاء السمن البلقاوي والقهوة العربية. وفي الكرك «الجميد» الكركي من «زحوم» و«الجديدة» والقهوة العربية «ودلال مصهيات». وفي البلقاء «خيام» تذكر بمجد تليد، مشرعات أبوابها لاستقبال «الخطار»، وفي الجنوب «خيام» مطرزة منسوجة من وبر الجمال والأغنام، يسكنها البدو الجنوبيون وعلى المدى «العيس» والشيح والقيصوم. وفي السلط «الهجيني والصحجة والشروقي» والربابة. وفي الكرك السامر والترويدة وأشعار البادية. وفي السلط يرتدون الشماغ الأحمر والعقال والعباءة ويتمنطقون «بعتاد الفشك» و«الشبرية».
وفي الكرك الشماغ الأحمر والعقال والعباءة والدشداشة البدوية وسيوف وبنادق وخناجر. وفي الكرك ينابيع وبساتين «وعين سارة»، وفي السلط غدران وينابيع وعين البنات. وفي الكرك فرسان وقادة جيش وشهداء في فلسطين، وفي السلط فرسان وقادة جيش وشهداء في فلسطين. الكركيون والسلطيون نشامى الوطن، ربع الكفاف الحمر، عشاق الجندية، ولاؤهم للهاشميين ولآل البيت الأطهار، ومن منطلق الولاء وضعوا أنفسهم وأولادهم في خدمة آل البيت منذ عهد الجد المؤسس إلى عهد عبدالله الثاني وإلى يوم الدين.
وفي السلط مؤسسة إعمار ووثيقة السلط الشعبية، وفي الكرك مؤسسة إعمار ووثيقة الكرك الشعبية، وفي السلط مدرسة السلط الثانوية أم المدارس الأردنية وفي الكرك مدرسة الكرك الثانوية أقدم المدارس الأردنية.
هذا البوح جزء من الجواب ولكن الأهم، هو أن السلط والكرك مدينتان أردنيتان وقطعة غالية من وطن واحد هو الأردن. الحديث عن الكرك وعن الجنوب عذب مثل عذوبة القصائد البدوية، فكلما عبرت من بوابة الصحراء جنوبا نحو الجنوب تتوقد مشاعري بحب هذا الوطن، وأكتب أحلى الكلمات في رحلة الذهاب، وفي رحلة الإياب أشعر بالاغتراب وبالاقتراب من مدينة هي حبي الأول وهي عمري. الكرك خاصرة وطن شامخ وحكاية فرسان، والسلط شامة على خد الوطن وحكاية حب. والأردن الوطن الأغلى والأحلى أنى توجهت تلقاك وجوه فرسانها، وأنى توجهت تلقاك أرض مزروعة بالرماح وبالسيوف وبالكرامة. سلام الله عليك يا كرك، وسلام الله عليك يا سلط، وسلام الله عليك يا وطن.

د. سليمان عربيات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق