الخميس، 8 أبريل 2010

من السلط إلى القدس

الدكتور محمود أبو طالب من أهم العلماء العرب في حقل التاريخ القديم، نشر عددا كبيرا من الدراسات المتخصصة معظمها باللغة الإنجليزية في دوريات متخصصة، وقد جمع مؤخرا عددا من هذه الدراسات في كتاب "من السلط إلى القدس" بعدما قام الأستاذ عمر الغول بترجمتها إلى العربية وساعده في تحريرها عفاف زيادة، وطبع الكتاب ونشر بدعم من البنك الأهلي الأردني.

في هذا الكتاب يقارن المؤلف بين الرواية التوراتية لاحتلال أرض كنعان باختبارها ومحاكمتها إلى علم الآثار، وهو اختبار مهم لأن الرواية التوراتية هذه هي التي تشكل أساسا عقائديا لإنشاء دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين.

إن الرواية التوراتية تقول إن بني إسرائيل قد هاجروا إلى المنطقة في الفترة الزمنية التي تعود إلى 1250 عاما قبل الميلاد، ويفترض أنهم حسب الرواية قد دخلوا في صراعات وتحالفات مع الممالك القائمة، كالمؤابيين والأدوميين والعمونيين ولكن التنقيبات والمسوحات الأثرية التي جرت في المنطقة لا تشير إلى أي أثر لاستيطان في المنطقة في العصر المشار إليه في التوراة برغم أن العمليات التي جرت كانت مجتهدة في محاولة البحث عن أي إشارة توافق الرواية التوراتية. وتذكر التوراة أسماء 31 مدينة احتلها الإسرائيليون في فلسطين ولكن عمليات البحث والتنقيب في هذه المواقع المشار إليها تؤكد أنها لم تكن مستوطنة في الفترة المذكورة في التوراة.

ولذلك فإن النتيجة التي يقترحها المؤلف هي أن بني إسرائيل مروا بالمنطقة في القرن السابع قبل الميلاد وليس القرن الثالث عشر، أو أنهم لم يمروا منها قط.

قد تكون الرواية البديلة أن بني إسرائيل تسربوا إلى المنطقة على نحو سلمي ومتدرج، وأن الهجرة كانت على هيئة عمليات هروب من الرق والاضطهاد في مصر ولجوء إلى الصحراء، وتعني كلمة خابيرو أو عبيرو، كما وردت في النصوص المصرية القديمة، الأشخاص الذين يعملون أرقاء أو جنود مأجورين في كيان سياسي لا ينتمون إليه، وقد استقرت هذه المجموعات الهاربة في كيانات وعشائر وجدت لها مكانا في المجتمعات الجديدة، وطورت مع الزمن كيانا ومجتمعا خاصا بها، وسيطرت على القرى والمدن الواقعة في السهول الموجودة على أسفل الهضاب في غربي فلسطين، ويؤمن بهذه النظرية علماء آثار يهود، مثل يوحنا أهاروني الأستاذ بجامعة تل أبيب.

وبعد قيام دولة إسرائيل ثم احتلال الضفة الغربية عام 1967 قامت جهود آثارية دقيقة ومكثفة، ويرجح باحثون إسرائيليون بناء على هذه الجهود مثل فنكلشتاين نظرية التسرب السلمي التدريجي، وتكشف البحوث الأثرية أنه بعد القرن العاشر قبل الميلاد بدأت تتشكل قرى بدائية مختلفة عن القرى الكنعانية يعمل سكانها في الرعي والزراعة، وكانت أدواتهم الفخارية والمعدنية المستخدمة للطهو والتخزين بسيطة الصنعة وعديمة الزخرفة، ولكن لم يعرف بعد شيء عن ديانة أهلها، فلم يعثر علماء الآثار على مقامات دينية أو أدوات طقوسية، وقد يكون هؤلاء برأي فنكلشتاين إسرائيليين، ولكنهم انبثقوا من المجتمعات الكنعانية بعد انهيار نسق مدن الدول في العصر البرونزي المتأخر، ولم يأتوا من مصر في خروج واسع النطاق، ولم يدمروا مدنا أو يحتلوها، ويبدو أنهم تحولوا مع الزمن إلى الديانات السائدة في المنطقة.

وهكذا فإن عملية استبناء تاريخ الإسرائيليين اعتمادا على العهد القديم(والذي كتب في الفترة 332 -63 ق.م) والنتائج التي توصل إليها علماء الآثار التوراتيون بدأت تذوي حتى بطل الأخذ بها منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين.

وما تعلمه الآثاريون الإسرائيليون من تنقيباتهم على حد تعبير أحدهم "لم يكن الإسرائيليون في مصر، ولم يتيهوا في الصحراء، ولم يحتلوا الأرض بحملة عسكرية، ولم تكن مملكة داود وسليمان سوى مملكة قبلية صغيرة، ولم يتحول اليهود إلى التوحيد إلا بعد فترة طويلة في أواخر عهد المملكة".

إبراهيم غرايبة
الغد      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق